سورة المؤمنون - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


ولما كان من المعلوم قطعاً أن التقدير: فاتقى الأنبياء الله الذي أرسلهم وتجشموا حمل ما أرسلهم به من عظيم الثقل، فدعوا العباد إليه وأرادوا جمعهم عليه، عطف عليه بفاء السبب قوله معبراً بفعل التقطع لأنه يفيد التفرق: {فتقطعوا} أي الأمم، وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم لأن الآية التي قبلها قد صرحت بأن الأنبياء ومن نجا معهم أمة واحدة لا اختلاف بينها، فعلم قطعاً أن الضمير للأمم ومن نشأ بعدهم، ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحداً أهم، فقدم قوله: {أمرهم} أي في الدين بعد أن كان مجتمعاً متصلاً {بينهم} فكانوا شيعاً، وهو معنى {زبراً} أي قطعاً، كل قطعة منها في غاية القوة والاجتماع والثبات على ما صارت إليه من الهوى والضلال، بكل شيعة طريقة في الضلال عن الطريق الأمم، والمقصد المستقيم، وكتاب زبروه في أهويتهم ولم يرحموا أنفسهم بما دعتهم إليه الهداة من الاجتماع والألفة فأهلكوها بالبغضاء والفرقة، وهو منصوب بأنه مفعول ثان لتقطع على ما مضى تخريجه في الأنبياء، وقد ظهر كما ترى ظهوراً بيناً أن هذه إشارة إلى الناجين من أمة كل نبي بعد إهلاك أعدائهم، أي إن هذه الجماعة الذين أنجيتهم معكم أمتكم، حال كونهم أمة واحدة متفقين في الدين، لا خلاف بينهم، وكما أن جماعتكم واحدة فأنا ربكم لا رب لكم غيري فاتقون ولا يخالف أحد منكم أمري ولا تختلفوا وتفترقوا لئلا أعذب العاصي منكم كما عذبت أعداءكم.
ولما كان هذا مما لا يرضاه عاقل، أجيب من كأنه قال: هل رضوا بذلك مع انكشاف ضرره؟ بقوله: {كل حزب} أي فرقة {بما لديهم} أي من ضلال وهدى {فرحون} أي مسرورون فضلاً عن أنهم راضون غير معرج الضال منهم على ما جاءت به الرسل من الهدى، ولا على الاعتبار بما اتفق لأممهم بسبب تكذيبهم من الردى.
ولما أنتج هذا أن الضلال وإن وضح لا يكشفه إلا ذو الجلال، سبب عنه سبحانه قوله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فذرهم} أي اتركهم على شر حالاتهم {في غمرتهم} أي الضلاله التي غرقوا فيها {حتى حين} أي إلى وقت ضربناه لهم من قبل أن نخلقهم ونحن عالمون بكل ما يصدر منهم على أنه وقت يسير.
ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أن حالهم- في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد- حال الموعود لا المتوعد، أنكر ذلك عليهم تنبيهاً لمن سبقت له السعادة، وكتبت له الحسنى وزيادة، فقال: {أيحسبون} أي لضعف عقولهم {أنما} أي الذين {نمدهم} على عظمتنا {به} أي نجعله مدداً لهم {من مال} نيسره لهم {وبنين} نمتعهم بهم، ثم أخبر عن أن بدليل قراءة السلمي بالياء التحتية فقال: {نسارع لهم} أي به بإدرارنا له عليهم في سرعة من يباري آخر {في الخيرات} التي لا خيرات إلا هي لأنها محمودة العاقبة، ليس كذلك بل هو وبال عليهم لأنه استدراج إلى الهلاك لأنهم غير عاملين بما يرضي الرحمن {بل} هم يسارعون في أسباب الشرور، ولا يكون عن السبب إلا مسببه، ولكنهم كالبهائم {لا يشعرون} أنهم في غاية البعد عن الخيرات {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [القلم: 44].
ولما ذكر أهل الافتراق، أتبعهم أهل النفاق، فكان كأنه قيل: فمن الذي يكون له الخيرات؟ فأجيب بأنه الخائف من الله، فقيل معبراً بما يناسب أول السورة من الأوصاف، بادئاً بالخشية لأنها الحاملة على تجديد الإيمان: {إن الذين هم} أي ببواطنهم {من خشية ربهم} أي الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم {مشفقون} أي دائمو الحذر {والذين هم بآيات ربهم} المسموعة والمرئية، لا ما كان من جهة غيره {يؤمنون} لا يزال إيمانهم بها يتجدد شكراً لإحسانه إليهم.
ولما كان المؤمن قد يعرض له ما تقدم في إيمانه من شرك جلي أو خفي، قال: {والذين هم بربهم} أي الذي لا محسن إليهم غيره وحده {لا يشركون} أي شيئاً من شرك في وقت من الأوقات كما لم يشركه في إحسانه إليهم أحد.


ولما أثبت لهم الإيمان الخالص، نفى عنهم العجب بقوله: {والذين يؤتون ما آتوا} أي يعطون ما أعطوا من الطاعات، وكذا قراءة يحيى بن الحارث وغيره: يأتون ما أتوا، أي يفعلون ما فعلوا من أعمال البر لتتفق القراءتان في الإخبار عنهم بالسبق؛ ثم ذكر حالهم فقال: {وقلوبهم وجلة} أي شديدة الخوف، قد ولج في دواخلها وجال في كل جزء منها لأنهم عالمون بأنهم لا يقدرون الله حق قدره وإن اجتهدوا، ثم علل ذلك بقوله: {أنهم إلى ربهم} أي الذي طال إحسانه إليهم {راجعون} بالبعث فيحاسبهم على النقير والقطمير، ويجزيهم بكل قليل وكثير وهو النافذ البصير، قال الحسن البصري: إن المؤمن حمع إيماناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً. ثم أثبت لهم ما أفهم أن ضده لأضدادهم فقال: {أولئك} أي خاصة {يسارعون} أي يسبقون سبق من يساجل آخر {في الخيرات} فأفهم ذلك ضد ما ذكر لأضدادهم بقوله: {وهم لها} أي إليها خاصة، أي إلى ثمراتها، ولكنه عبر باللام إشارة إلى زيادة القرب منها والوصول إليها مع الأمن لجعل الخيرات ظرفاً للمسارعة من أخذها على حقيقتها للتعدية {سابقون} لجميع الناس، لأنا نحن نسارع لهم في المسببات أعظم من مسارعتهم في الأسباب، ويجوز أن يكون {سابقون} بمعنى: عالين، من وادي «سبقت رحمتي غضبي» أي أنهم مطيقون لها ومعانون عليها {ولا} أي والحال أنا لا نكلفهم ولكنه عم فقال: {نكلف نفساً} أي كافرة ومؤمنة {إلا وسعها} فلا يقدر عاص على أن يقول: كنت غير قادر على الطاعة، ولا يظن بنا مؤمن أنا نؤاخذه بالزلة والهفوة، فإن أحداً لا يستطيع أن يقدرنا حق قدرنا لأن مبنى المخلوق على العجز.
ولما كانت الأعمال إذا تكاثرت وامتد زمنها تعسر أو تعذر حصرها إلا بالكتابة عامل العباد سبحانه بما يعرفون مع غناه عن ذلك فقال: {ولدينا} أي عندنا على وجه هو أغرب الغريب {كتاب} وعبر عن كونه سبباً للعلم بقوله: {ينطق} بما كتب فيه من أعمال العباد من خير وشر صغير وكبير {بالحق} أي الثابت الذي يطابقه الواقع، قد كتب فيه أعمالهم من قبل خلقهم، لا زيادة فيها ولا نقص، تعرض الحفظة كل يوم عليه ما كتبوه مما شاهدوه بتحقيق القدر له فيجدونه محرراً بمقاديره وأوقاته وجميع أحواله قيزدادون به إيماناً، ومن حقيته أنه لا يستطاع إنكار شيء منه.
ولما أفهم ذلك نفي الظلم، صرح به فقال: {وهم} أي الخلق كلهم {لا يظلمون} من ظالم ما بزيادة ولا نقص في عمل ولا جزاء.
ولما كان التقدير: ولكنهم بذلك لا يعلمون، قال: {بل قلوبهم} أي الكفرة من الخلق؛ ويجوز أن يكون هذا الإضراب بدلاً من قوله: {بل لا يشعرون} {في غمرة} أي جهالة قد أغرقتها {من هذا} أي الذي أخبرنا به من الكتاب الحفيظ فهم به كافرون {ولهم أعمال} وأثبت الجار إشارة إلى أنه لا عمل لهم يستغرق الدون فقال: {من دون ذلك} أي مبتدئة من أدنى رتبة التكذيب من سائر المعاصي لأجل تكذيبهم بالكتاب المستلزم لتكذيبهم بالبعث المستلزم لعدم الخوف المستلزم للإقدام على كل معضلة {هم لها} أي دائماً {عاملون} لا شيء يكفهم إلا عجزهم عنها.
ولما كانوا كالبهائم لا يخافون من المهلكة إلا عند المشاهدة، غيَّى عملهم للخبائث بالأخذ فقال: {حتى إذا أخذنا} أي بما لنا من العظمة {مترفيهم} الذين هم الرؤساء القادة {بالعذاب} فبركت عليهم كلاكله، وأناخت بهم أعجازه وأوائله {إذا هم} كلهم المترف ومن تبعه من باب الأولى {يجئرون} أي يصرخون ذلاًّ وانكساراً وجزعاً من غير مراعاة لنخوة، لا استكباراً، وأصل الجأر رفع الصوت بالتضرع- قاله البغوي، فكأنه قيل: فهل يقبل اعتذارهم أو يرحم انكسارهم؟ فقيل: لا بل يقال لهم بلسان الحال أو القال: {لا تجئروا اليوم} بعد تلك الهمم، فإن الرجل من لا يفعل شيئاً عبثاً، ثم علل ذلك بقوله: {إنكم منا} أي خاصة {لا تنصرون} أي بوجه من الوجوه، ومن عدم نصرنا لم يجد له ناصراً، فلا فائدة لجؤاره إلا إظهار الجزع؛ ثم علل عدم نصره لهم بقوله: {قد كانت آياتي}.
ولما كانت عظمتها التي استحقت بها الإضافة إليه تكفي في الحث على الإيمان بمجرد سماعها، بنى للمفعول قوله: {تتلى عليكم} أي وهي أجلى الأشياء، من أوليائي وهم الهداة النصحاء {فكنتم} أي كوناً هو كالجبلة {على أعقابكم} عند تلاوتها {تنكصون} أي ترجعون القهقرى إما حساً أو معنى، والماشي كذلك لا ينظر ما وراءه، ومضارعه فيه مع الكسر الضم ولم يقرأ به ولو شاذاً، دلالة على أنه رجوع كبر وبطر فهو بالهوينا، ولو قرئ بالضم لدل على القوة فأفهم النفرة والهرب، قال في القاموس: نكص على عقبيه ينكص وينكص: رجع عما كان عليه من خير، وفي الشر قليل، وعن الأمر نكصاً ونكوصاً ونكاصاً.
أو على ما ذكرت دلالة على ما تقديره: حال كونكم {مستكبرين به} أي بذلك النكوص، لا شيء غير الاستكبار من هرب أو غيره، ذوي سمر في أمرها بالقول الهجر، وهو الفاحش، ولعله إنما قال: {سامراً} بلفظ المفرد لأن كلاًّ منهم يتحدث في أمر الآيات مجتمعاً مع غيره ومنفرداً مع نفسه حديثاً كثيراً كحديث المسامر الذي من شأنه أن لا يمل؛ وقال: {تهجرون} أي تعرضون عنها وتقولون فيها القول الفاحش، فأسنده إلى الجمع لأن بعضهم كان يستمعها، ولم يكن يفحش القول فيها، أو تعجيباً من أن يجتمع جمع على مثل ذلك لأن الجمع جدير بأن يوجد فيه من يبصر الحق فيأمر به.


ولما كانت الآيات- لما فيها من البلاغة المعجزة، والحكم المعجبة داعية إلى تقبلها بعد تأملها، وكانوا يعرضون عنها ويفحشون في وصفتها تارة بالسحر وأخرى بالشعر، وكرة بالكهانة ومرة بغيرها، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم فقال معرضاً عنهم إيذاناً بالغضب مسنداً إلى الجمع الذي هو أولى بإلقاء السمع: {أفلم يدبروا القول} أي المتلو عليهم بأن ينظروا في أدباره وعواقبه ولو لم يبلغوا في نظرهم الغاية بما أشار إليه الإدغام، ليعلموا أنه موجب للإقبال والوصال، والوصف بأحسن المقال، لعله عبر بالقول إشارة إلى أن من لم يتقبله ليس بأهل لفهم شيء من القول بل هو في عداد البهائم {أم جاءهم} في هذا القول من الأوامر بالتوحيد الآتي بها الرسول الذي هو من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وما ترتب على ذلك من الأوامر التي لا يجهل حسم فعلها عاقل، والنواهي التي- كما يشهد بقبح إتيانها العالم- يقطع بها الجاهل، وبالرسالة برسول من البشر {ما لم يأت آباءهم الأولين} الذين بعد إسماعيل وقبله.
ولما كان الرجل الكامل من عرف الرجال بالحق، بدأ بما أشار إليه ثم أعقبه بمن يعرف الشيء للألف به، ثم بمن يعرف الحق بالرجال فقال: {أم لم يعرفوا رسولهم} أي الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله، ويعرفوا نسبه وصدقه وأمانته، وما فاتهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه- إذا حقت الحقائق- نقيصة يذكرونها، ولا صمة يتخيلونها، كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه صلى الله عليه وسلم {فهم} أي فتسبب عن جهلهم به أنهم {له} أي نفسه أو للقول الذي أتى به {منكرون} فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به، فلم يحرز شيئاً من رتبتي الناس، لا رتبة العلماء الناقدين، ولا رتبة الجهال المتقلدين، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبعنادهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل ثم يكذبونه.
ولما فرغ بما قد يجر إلى الطعن في القول أو القائل، أشار إلى العناد في أمر القائل والقول والرسول بقوله: {أم يقولون} أي بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن {به} أي برسولهم {جنة} أي فلا يوثق به لأنه قد يخلط فيأتي بما فيه مطعن وإن خفي وجه الطعن فيه في الحال.
ولما كانت هذه الأقسام منتفية ولا سيما الأخير المستلزم عادة للتخليط المستلزم للباطل، فإنهم أعرف الناس بهذا الرسول الكريم وأنه أكملهم خلقاً، وأشرفهم خلقاً، وأطهرهم شيماً، وأعظمهم همماً، وأرجحهم عقلاً، وأمتنهم رأياً وأرضاهم قولاً، وأصوبهم فعلاً، اضرب عنها وقال: {بل} أي لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى، وإنما فعلوا ذلك لأن هذا الرسول الكريم {جاءهم بالحق} الذي لا تخليط فيه بوجه، ولا شيء أثبت منه ولا أبين مما فيه من التوحيد والأحكام، ولقد أوضح ذلك تحديهم بهذا الكتاب فعجزوا فهو بحيث لا يجهله منصف {وأكثرهم} أي والحال أن أكثرهم {للحق كارهون} متابعة للأهواء الرديئة والشهوات البهيمية عناداً، وبعضهم، يتركونه جهلاً وتقليداً أو خوفاً من أن يقال: صبأ، وبعضهم يتبعه توفيقاً من الله وتأييداً.
ولما كان ربما قيل: ما له ما كان بحسب أهوائهم فكانوا يتبعونه ويستريح ويستريحون من هذه المخالفات، التي جرت إلى المشاحنات، فأوجبت أعظم المقاطعات، قال مبيناً فساد ذلك، ولعله حال من فاعل كاره، فإن جزاءه خبري مسوغ لكونه حالاً كما ذكره الشيخ سعد الدين في بحث المسند، أو هو معطوف على ما تقديره: فلو تركوا الكره لأحبوه ولو أحبوه لاتبعوه ولو اتبعوه لانصلحوا وأصلحوا {ولو اتبع الحق} أي في الأصول والفروع والأحوال والأقوال {أهواءهم} أي شهواتهم التي تهوي بهم لكونها أهواء- بما أشار إليه الافتعال {لفسدت السماوات} على علوها وإحكامها {والأرض} على كثافتها وانتظامها {ومن فيهن} على كثرتهم وانتشارهم وقوتهم، بسبب ادعائهم تعدد الآلهة، ولو كان ذلك حقاً لأدى ببرهان التمانع إلى الفساد، وبسبب اختلاف أهوائهم واضطرابها المفضي إلى النزاع كما ترى من الفساد عند اتباع بعض الأغراض في بعض الأزمان إلى أن يصلحها الحق بحكمته، ويقمعها بهيبته وسطوته، ولكنا لم نتبع الحق أهواءهم {بل أتيناهم} بعظمتنا {بذكرهم} وهو الكتاب الذي في غاية الحكمة، ففيه صلاح العلم وتمام انتظامه، فإذا تأمله الجاهل صده عن جهله فسعد في أقواله وأفعاله، وبان له الخير في سائر أحواله، وإذا تدبره العالم عرج به إلى نهاية كماله، فحينئذ يأتي السؤال عمن أنزله، فتخضع الرقاب، وعمن أنزل عليه فيعظم في الصدور، وعن قومه فتجلهم النفوس، وتنكس لمهابتهم الرؤوس، فيكون لهم أعظم ذكر وأعلى شرف.
ولما جعلوا ما يوجب الإقبال سبباً للإدبار، قال معجباً منهم: {فهم عن ذكرهم} أي الذي هو شرفهم {معرضون} لا يفوتنا بإعراضهم مراد، ولا يلحقنا به ضرر، إنما ضرره عائد إليهم، وراجع في كل حال عليهم.
ولما أبطل تعالى وجوه طعنهم في المرسل به والمرسل من جهة جهلهم مرة، ومن جهة ادعائهم البطلان أخرى، نبههم على وجه آخر هم أعرف الناس ببطلانه ليثبت المدعى من الصحة إذا انتفت وجوه المطاعن فقال منكراً: {أم تسألهم} أي على ما جئتهم به {خرجاً} قال البغوي: أجراً وجعلاً، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم: والخرج والخراج شيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم، والخراج غلة العبد والأمة، وقال الزجاج: الخراج: الفيء، والخرج: الضريبة والجزية، وقال الأصبهاني: سئل أبو عمرو بن العلاء فقال: الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه، والخرج ما تبرعت به من غير وجوب.
ولما كان الإنكار معناه النفي، حسن موقع فاء السبب في قوله: {فخراج} أي أم تسألهم ذلك ليكون سؤالك سبباً لاتهامك وعدم سؤالك، بسبب أن خراج {ربك} الذي لم تقصد غيره قط ولم تخل عن بابه وقتاً ما {خير} من خراجهم، لأن خراجه غير مقطوع ولا ممنوع عن أحد من عباده المسيئين فكيف بالمحسنين! وكأنه سماه خراجاً إشارة إلى أنه أوجب رزق كل أحد على نفسه بوعد لا خلف فيه {وهو خير الرازقين} فإنه يعلم ما يصلح كل مرزوق وما يفسده، فيعطيه على حسب ما يعلم منه ولا يحوجه إلى سؤال.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8